بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته باب ما جاء في النشرة:
* تعريف النشرة:
في اللغة، بضم النون: فعلة من النشر، وهو التفريق.
وفي الاصطلاح: حل السحر عن المسحور.
لأن هذا الذي يحل السحر عن المسحور: يرفعه، ويزيله، ويفرقه.
أما حكمها، فهو يتبين مما قاله المؤلف رحمه الله، وهو من أحسن البيانات.
ولا ريب أن حل السحر عن المسحور من باب الدواء والمعالجة وفيه فضل كبير لمن ابتغى به وجه الله لكن في القسم المباح منها. لأن السحر له تأثير على بدن المسحور وعقله ونفسه وضيق الصدر، حيث لا يأنس إلا بمن استعطف عليه.
وأحيانًا يكون أمراضًا نفسية بالعكس، تنفر هذا المسحور عمن تنفره عنه من الناس، وأحيانًا يكون أمراضًا عقلية، فالسحر له تأثير إما على البدن، أو العقل، أو النفس.
عن جابر، أن رسول الله سئل عن النشرة؟ فقال: «هي من عمل الشيطان». رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود. وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
قوله في: (عن النشرة). (أل) للعهد الذهني، أي: المعروفة في الجاهلية التي كانوا يستعملونها في الجاهلية، وذلك طريق من طرق حل السحر، وهي على نوعين:
الأول: أن تكون باستخدام الشياطين، فإن كان لا يصل إلى حاجته منهم إلا بالشرك، كانت شركًا، وإن كان يتوصل لذلك بمعصية دون الشرك، كان لها حكم تلك المعصية.
الثاني: أن تكون بالسحر، كالأدوية والرقى والعقد والنفث وما أشبه ذلك، فهذا له حكم السحر على ما سبق.
ومن ذلك ما يفعله بعض الناس، أنهم يضعون فوق رأس المسحور طستًا فيه ماء ويصبون عليه رصاصًا ويزعمون أن الساحر يظهر وجهه في هذا الرصاص، فيستدل بذلك على من سحره، وقد سئل الإمام أحمد عن النشرة، فقال: إن بعض الناس أجازها، فقيل له: إنهم يجعلون ماء في طست، وإنه يغوص فيه، وإنه يبدو وجهه، فنفض يده وقال: ما أدري ما هذا؟ ما أدري ما هذا؟ فكأنه رحمه الله توقف في الأمر وكره الخوض فيه.
قوله: «من عمل الشيطان»، أي: من العمل الذي يأمر به الشيطان ويوحي به، لأن الشيطان يأمر بالفحشاء ويوحي إلى أوليائه بالمنكر، وهذا يغني عن قوله: إنها حرام، بل هو أشد، لأن نسبتها للشيطان أبلغ في تقبيحها والتنفير منها، ودلالة النصوص على التحريم لا تنحصر في لفظ التحريم أو نفي الجواز، بل إذا رتبت العقوبات على الفعل كان دليلًا على تحريمه.
قوله: (رواه أحمد بسند جيد وأبو داود) سند أبي داود إلى أحمد متصل، لأنه قد حدثه وأدركه.
قوله: (فقال: ابن مسعود يكره هذا كله). أجاب رحمه الله بقول الصحابي، وكأنه ليس عنده أثر صحيح عن النبي في ذلك، وإلا لاستدل به.
والمشار إليه في قوله: (يكره هذا كله) كل أنواع النشرة، وظاهره: ولو كانت على الوجه المباح على ما يأتي، لكنه غير مراد، لأن النشرة بالقرآن والتعوذات المشروعة لم يقل أحد بكراهته، وسبق أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يكره تعليق التمائم من القرآن وغير القرآن.
وعلى هذا، فالكلية في قول أحمد: (يكره هذا كله) يراد بها النشرة التي من عمل الشيطان، وهي النشرة بالسحر والنشرة التي من التمائم.
وقوله: (يكره). الكراهة عند المتقدمين يراد بها التحريم غالبًا، ولا تخرج عنه إلا بقرينة، وعند المتأخرين خلاف الأولى، فلا تظن أن لفظ المكروه في عرف المتقدمين أو كلامهم مثله في كلام المتأخرين، بل هو يختلف، انظر إلى قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا} [الإسراء: 23]، إلى أن قال بعد أن ذكر أشياء محرمة: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهًا} [الإسراء: 38]، ولا شك أن المراد بالكراهة هنا التحريم.
وفي (البخاري) عن قتادة: (قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع، فلم ينه عنه).
قوله: (رجل به طب). أي: سحر، ومن المعلوم أن الطب هو علاج المرض، لكن سمي السحر طبًا من باب التفاؤل، كما سمي اللديغ سليمًا والكسير جبيرًا.
قوله: (أو يؤخذ عن امرأته). أي: يحبس عن زوجته، فلا يتمكن من جماعها، وهو ليس به بأس، وهذا نوع من السحر.
والعجيب أنه مشتهر عند الناس أنه إذا كان عند العقد، وعقد أحد عقده عند العقد، فإنه يحصل حبسه عن امرأته، وبالغ بعضهم، فقال: إذا شبك أحدهم بين أصابعه عند العقد حبس الزوج عن أهله، وهذا لا أعرف له أصلًا.
ولكن كثيرًا ما يقع حبس الزوج عن زوجته ويطلبون العلاج.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن من العلاج أن يطلقها، ثم يراجعها، فينفك السحر.
لكن لا أدري هل هذا يصح أم لا؟ فإذا صح، فالطلاق هنا جائز، لأنه طلاق للاستبقاء، فيطلق كعلاج، ونحن لا نفتي بشيء من هذا، بل نقول: لا نعرف عنه شيئًا.
و: (أو) في قوله: (أو يؤخذ) يحتمل أنها للشك من الراوي: هل قال قتادة: (به طب) أو قال: (يؤخذ عن امرأته)؟
أي: أو قلت: يؤخذ، ويحتمل أن تكون للتنويع، أي أنه سأله عن أمرين: عن المسحور، وعند الذي يؤخذ عن امرأته.
قوله: (أيحل عنه أو ينشر). لا شك أن (أو) هنا للشك، لأن الحل هو النشرة.
قوله: (لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح). كأن ابن المسيب رحمه الله قسم السحر إلى قسمين: ضار، ونافع.
فالضار محرم، قال تعالى: {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} [البقرة: 102]، والنافع لا بأس به، وهذا ظاهر ما روي عنه، وبهذا أخذ أصحابنا الفقهاء، فقالوا: يجوز حل السحر بالسحر للضرورة، وقال بعض أهل العلم: إنه لا يجوز حل السحر بالسحر، وحملوا ما روي عن ابن المسيب بأن المراد به ما لا يعلم عن حاله: هل هو سحر، أم غير سحر؟ أما إذا علم أنه سحر، فلا يحل، والله أعلم.
ولكن على كل حال حتى ولو كان ابن المسيب ومن فوق ابن المسيب ممن ليس قوله حجة يرى أنه جائز، فلا يلزم من ذلك أن يكون جائزًا في حكم الله حتى يعرض على الكتاب والسنة، وقد سئل الرسول عن النشرة؟ فقال: «هي من عمل الشيطان».
وروي عن الحسن، أنه قال: (لا يحل السحر إلا ساحر).
قال ابن القيم: (النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز).
قوله: (وروي عن الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر). هذا الأثر إن صح، فمراد الحسن الحل المعروف غالبًا، وأنه لا يقع إلا من السحرة.
قوله: (قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور...) إلخ.
هذا الكلام جيد ولا مزيد عليه.
* فيه مسائل:
الأولى: النهي عن النشرة. الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه مما يزيل الإشكال.
فيه مسائل:
* الأولى: النهي عن النشرة. تؤخذ من قوله: (هي من عمل الشيطان)، وهنا ليس فيه صيغة نهي، لكن فيه ما يدل على النهي، لأن طرق إثبات النهي ليست الصيغة فقط، بل ذم فاعله ونحوه، وتقبيح الشيء وما أشبه ذلك يدل على النهي.
* الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه. تؤخذ من كلام ابن القيم رحمه الله وتفصيله.
* إشكال وجوابه:
ما الجمع بين قول الفقهاء رحمهم الله يجوز حل السحر بالسحر، وبين قولهم يجب قتل الساحر؟
الجمع أن مرادهم بقتل الساحر من يضر بسحره دون من ينفع، فلا يقتل، أو أن مرادهم بيان حكم حل السحر بالسحر للضرورة، وأما الإبقاء على الساحر، فله نظر آخر، والله أعلم.