فضيلة العلامة د. صالح بن فوزان الفوزان :
الحمد لله ، الذي له ما في السماوات وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير ، والسراج المنير ، صلى الله عليه ، وعلى آله ، وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان ، وسلم تسليمًا .
أيها الناس : اتقوا الله تعالى ، وعلقوا آمالكم به ، وتوكلوا عليه ، وارجوا ثوابه ، وخافوا من عقابه : ( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) . [ العنكبوت : 17 ] .
من الناس من يتشاءم بالأشخاص والأزمان ، ويظن أنه يصيبه منها شر لذاتها لا بقضاء الله وقدره . وهذا هو الطيرة التي نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أنها شرك ؛ لأن المتطير والمتشاءم يعتقد : أن ما يصيبه من المكاره ؛ إنما هو من شؤم المخلوق من زمان ، أو مكان ، أو شخص ؛ فيكره ذلك الشخص ، أو الزمان ، أو المكان ، وينفر منه ظنًا منه أنه يجلب له الشر ، وينسى ، أو يتجاهل : أن ما أصابه إنما هو بقضاء الله وقدره ، وبسبب ذنبه ؛ كما ذكر الله عن الأمم الكافرة : أنهم تطيروا بمن هو مصدر الخير من الأنبياء والمؤمنين ، قال الله تعالى عن قوم فرعون : ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَه ) . [ الأعراف : 131 ] .
وكذلك ثمود تطيروا بنبيهم صالح - عليه السلام - : ( قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ) . [ النمل : 47 ] .
وكذلك مشركوا العرب ، تطيروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال الله عنهم : ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ) . [ النساء : 78 ] .
فرد الله على هؤلاء بأن ما يصيبهم من العقوبات والمكاره إنما هو بقضاء الله وقدره ، وبسبب ذنوبهم : ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا . مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) . [ النساء : 78 - 79 ] ، وهذا من انتكاست فطرهم ، حيث اعتقدوا الشر بمن هو مصدر الخير والصلاح .
عباد الله : ومن التشاؤم والتطير ما كان يعتقده أهل الجاهلية في شهر صفر : أنه شهر مشئوم ؛ فيمتنعون فيه عن مزاولة الأعمال المباحة التي كانوا يزاولونها في غيره ؛ فأبطل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( لا عدوى ولا هامة ولا صفر ) . [ رواه البخاري ومسلم ] .
وهو نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية من : أن الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير الله لذلك ، والله تعالى يقول : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) . [ الحديد : 22 ] .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا هامة ) ، الهامة : البومة ، ومعناه : نفي ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه فيها أنها إذا وقعت على بيت أحدهم يتشاءم ، ويقول : نعت إلي نفسي أو أحدًا من أهل داري ؛ فيعتقد : أنه سيموت هو أو بعض أهله تشاؤمًا بهذا الطائر .
فنفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وأبطله ، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( ولا صفر ) . على الصحيح : أن أهل الجاهلية كانوا يتشاءمون بشهر صفر ، ويقولون : أنه شهر مشؤوم ؛ فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، وبين أنه لا تأثير له ، وإنما هو كسائر الأوقات التي جعلها الله فرصة للأعمال النافعة ، وهذا الاعتقاد الجاهلي لا يزال في بعض الناس إلى اليوم ؛ فمنهم من يتشاءم بصفر ، ومنهم من يتشاءم ببعض الأيام ؛ كيوم الأربعاء ، أو يوم السبت ، أو غيره من الأيام ، فلا يتزوجون في هذه الأيام .
يعتقدون ، أو يظنون : أن الزواج فيها لا يوفق ، كما كان أهل الجاهلية يتشاءمون بشهر شوال فلا يتزوجون فيه ، وقد أبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الاعتقاد ؛ فتزوج عائشة - رضي الله عنها - في شوال ، وتزوج أم سلمة - رضي الله عنها - في شوال .
أيها المسلمون : إن الخير والشر والنعم والمصائب كلها بقضاء الله وقدره : ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله ) . [ النساء : 78 ] ؛ فهو الذي يخلق ما يشاء ويختار ، وما يصيب العباد من الشرور والعقوبات فإن الله قدره عليهم بسبب ذنوبهم ومعاصيهم : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) . [ الشورى : 30 ] . ليس للمخلوق يد في تقديره وإيجاده .
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( واعلم : أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) . [ رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ] .
وهذا لا ينافي : أن يجعل الله بعض مخلوقاته سببًا للخير أو الشر ، ولكن ليست الأسباب هي التي تحدث هذه الأمور ، وإنما ذلك راجع إلى مسبب الأسباب ، وهو الله سبحانه .
ومطلوب من العبد : أن يتعاطى أسباب الخير ، ويتجنب أسباب الشر . قال تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) . [ البقرة : 195 ] .
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - : ( وأما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان ؛ كشهر صفر ، أو غيره ؛ فغير صحيح ، وإنما الزمان كله خلق الله تعالى ، وفيه تقع أفعال بني آدم ؛ فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله ؛ فهو زمان مبارك عليه ، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله ؛ فهو شؤم عليه ) .
فالشؤم في الحقيقة : هو معصية الله تعالى ؛ فالمعاصي والذنوب تسخط الله - عز وجل - ، كما أن الطاعات ترضي الله سبحانه ، وإذا رضي الله عن عبده سعد في الدنيا والآخرة . والعاصي شؤم على نفسه وعلى غيره ؛ فإنه لا يأمن أن ينزل عليه عذاب ؛ فيعم الناس ، خصوصًا من لم ينكر عليه عمله ؛ فالبعد عنه متعين ، وكذلك أماكن المعاصي يتعين البعد عنها والهرب منها خشية نزول العذاب ؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه لما مر على ديار ثمود بالحجر : ( لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ؛ إلا أن تكونوا باكين خشية أن يصيبكم ما أصابهم ) .
فهجر أماكن المعاصي وهجران العصاة من جملة الهجرة المأمورة بها ؛ فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه .
قال إبراهيم بن أدهم - رحمه الله - : ( من أراد التوبة فليخرج من المظالم وليدع مخالطة من كان يخالطه - يعني : من العصاة - ، وإلا لم ينل ما يريد ) ؛ فاحذروا الذنوب ! فإنها مشئومة ، وعقوبتها أليمة .
والأماكن والبقاع في الأصل طاهرة نقية ، ولكن ذنوب العباد تدنسها وتفسدها بشؤمها ، والأزمنة أوقات لعمل الخير ، ولكن العبد بفعل الشر يدنسها ، كما قيل :
نعيب زماننا والعيب فينا ... وما لزماننا عيب سوانا
فاتقوا الله - عباد الله - ، واعمروا بيوتكم وأوقاتكم بطاعة الله ، وعلقوا قلوبكم بالله خوفًا ورجاءً ومحبةً ، ولوموا أنفسكم .
واعلموا أن ما أصابكم مما تكرهون إنما هو بسبب ذنوبكم لا بشؤم الزمان ، والمكان ، وإنما هو بسوء عمل الإنسان ، ومن تشاءم بشهر من الشهور ، أو يوم من الأيام ، أو ساعة من الساعات ، أو سب شيئًا من ذلك ؛ فإنه يسب الله تعالى ويؤذيه ؛ كما في " الصحيح " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : قال الله تعالى : ( يؤذيني ابن آدم بسب الدهر ، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار ) ، وفي رواية : ( لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر ) .
قال الإمام البغوي - رحمه الله - في " شرح السنة " : ( ومعناه : أن العرب كان من شأنها ذم الدهر أي سبه عند النوازل ؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره ؛ فيقولون : أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر ، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها ، فكان مرجع سبها إلى الله - عز وجل - إذ هو الفاعل في الحقيقة ، وما يجري في الدهر من خير أو شر فهو بإرادة الله ، الخير تفضل من الله ، والشر بسبب ذنوب العباد ومعاصيهم ) .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا . مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا . مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ) . [ النساء : 78 - 80 ] .
بارك الله لنا في القرآن العظيم
منقول